شيماء زاهر
"الحوت طالما أمدّ الإنسان باحتياجات مذهلة؛ في الستينيات من القرن الماضي دخل زيت الحوت في صناعة الآيس كريم، والصابون وزيت الفرامل للعربات، والمشمّع والسمن الصناعي.. من كبد الحوت استخرج فيتامين ألف. مضارب التنس صنعت من حشايا الحوت وطعام القطط من لحم الحوت. خلال القرن التاسع عشر، ارتدت السيدات مشدّات للصدر من عظام الحوت، لتأخذ أثداؤهن أشكالا غير طبيعية. في ذات الوقت أضاء زيت القناديل البيوت.. كان العنبر ذو الرائحة النفاذة للأمراء، أو المحبين لإغواء الفتيات، بينما من عاج الحوت -الأسنان- صنعت أصابع البيانو".
بهذه الفقرة يفتتح الناقد "بي ويلسن" Bee Wilson عرض كتاب "عملاق الماء أو الحوت" Leviathan, or The Whale للكاتب فيليب هور Philip Hoare في جريدة التايمز البريطانية، وهو الحاصل على جائزة صامويل جونسون للكتابات غير الأدبية، الجائزة الأهم في بريطانيا في هذا المجال.
يقول بي ويلسن في عرضه للكتاب إنه منذ وقت يونس (عليه السلام) وبقائه ببطن الحوت ثلاثة أيام، مثّل الحوت للإنسان "أسطورة تدفع الخيال".. ويسجل فيليب هور ولعه بالحوت منذ أن رآه كمجسم في متحف لندن للتاريخ الطبيعي ورؤيته له عندما كبر.. هنا مثلا يحكي فيليب هور عن الحوت:
"رأيت رجالاً بكوا حين رأوا الحوت للمرة الأولى، لا شيء آخر يمثل الحياة بهذا الكبر، رؤية حوت ليس مثل رؤية عصفور على شجرة في مدينة، أو قطة تعبر الطريق. ولا حتى كرؤية زراف يتلكأ في مرج إفريقي، الحيتان تفوق المعتاد، هم ليسوا حيوانات بقدر ما هم ينتمون للجغرافيا.. إن لم تتحرك الحيتان من الصعب أن تصدق بأنها كانت حية على الإطلاق".
يتداعى السرد ويحكي فيليب هور عن أشياء أخرى تتعلق به: طلق الولادة الذي شعرت به أمه عندما كانت في رحلة في غواصة بالبحر.. رعبه من السباحة حتى سن الخامسة والعشرين، وإعجابه آنذاك بعالم البحر وما به من كائنات.. "كأنما كنت أتحدى مخاوفي"، يضيف "هور" في حديث إذاعي له على موقع الجارديان.
يصف "هور" العلاقة التاريخية بين الإنسان والحوت: "في الماضي كنا نعتمد على الحيتان، والدتي ووالدتك كانتا تضعان مستحضرات تجميل من مركبات الحوت.. صيد الحيتان كحرفة ظل مسموحا به في أوروبا حتى عام 1986.. سريعا تحوّلنا من حضارة تصطاد الحيتان إلى أخرى تشاهد الحيتان.. هذا المفهوم، إن تاريخ البشر وتاريخ الطبيعة يتقابلان، هو ما يُقوي السرد في رأيي" يتحدث الكاتب في ذات الحوار بالجارديان.
الفقرة التالية مثلا تدلل على كلام "هور" أن تاريخ الطبيعة والبشر يتقابلان:
"الحيتان وُجدت قبل الإنسان، إلا أننا عرفنا عنها منذ جيلين أو ثلاثة. فحتى مع اختراع التصوير المائي، لم نعرف كيف كان شكلها.. فقط عندما رأينا الأرض من السفن الفضائية قمنا بتصوير أول حوت في بيئته الطبيعية.. الفيلم الأول عن "العنبر" (أحد أنواع الحيتان) على شواطئ سريلانكا، لم يتم تصويره حتى عام 1984. لقد عرفنا كيف بدا العالم قبل أن نعرف كيف بدت الحيتان. حتى الآن، هناك الحوت ذو المنقار، نعرفه فقط حين يجرف البحر عظامه على الشواطئ البعيدة.. تلك الحيوانات الخفية في قاع البحر، تحمل علامات غريبة، لم يرها العلماء مطلقا، حية كانت أم ميتة، ولم تدرس بالقدر الكافي حتى أنها تصنف "بيانات ناقصة".. من الأجدر بنا أن نتذكر أن حيوانات العالم أكبر منا، لم يحن الوقت بعد لنراها.. ليس كل شيء مصنف، وله لقب، وأرقام.. في المحيطات حيتان كبيرة تسبح لم يسمّها الإنسان بعد".
الفقرة السابقة تربط إذن بين تطور الأقمار الصناعية ومعرفة الإنسان للحوت عن قرب للمرة الأولى؛ الكتاب يحكي أيضا عن الأدب، تحديدا رواية "موبي ديك" Moby-Dick هنا نذكر شيئا عنها.
كتب رواية "موبي ديك" Moby-Dick الكاتب الأمريكي هيرمان ملفيل Herman Melville ، في القرن التاسع عشر تحديدا في عام 1851؛ وتحكي عن بحار يُدعى "إسماعيل" Ishmael تبتر ساقه وتحطم مركبه بواسطة حوت أبيض كبير يعرف باسم "موبي ديك"، ويسعى "إسماعيل" للثأر لنفسه من الحوت. وإذا كان في "موبي ديك" لا يخرج الحوت عن كونه حيوانا مفترسا؛ فإن فيليب هور يضفي صفات إنسانية على الحوت.. يقول مثلا إنه عندما رأي الحيتان في المحيط الأطلسي، شعر بأنهم "يحكمون عليّ. يعرفون من أنا. حتى لو لم أستطع فهمهم، أحسست أنني جسد على خريطة رباعية الأبعاد، يفحصونني بالحواس الستة".
في مواضع أخرى يصف "هور" الحوت بشاعرية؛ فهو "كالسحاب"؛ "عملاق حي محير كلغز"؛ و"بلاد بها مجتمعات كالكواكب".
هذه المبالغة في الوصف هي الانتقاد الذي وجهه الناقد "بي ولسن" للكاتب في نفس المقال بالتايمز:
"يقول فيليب هور: إن الحوت قُدّر له أن يشارك الإنسان نفس الهواء، ويخسر حياته في محاولة الإبقاء عليها، في موقف صعب كأي فيلسوف تحيره ظروف الإنسان" أتساءل هنا إن كان بإمكاننا أن نقول نفس الشيء على أي حيوان آخر، ليكن الفأر مثلا"!
ولع الكاتب بالموضوع الذي يتناوله، السرد الحالم، وقدرة الكاتب على إشراك القارئ معه هي أسباب اختيار "هور" للجائزة، وفقا لما ذكرته لجنة التحكيم على موقع الجائزة على الإنترنت.
لـ"فيليب هور" البالغ من العمر واحدا وخمسين عاما عدة كتب في مجال السيرة الذاتية مثل كتابه عن أوسكار وايلد Oscar Wilde’s Last Stand. خمس سنوات هي الزمن الذي استغرقه "هور" لكتابة "الحوت" وعشرون ألف جنيه استرليني هي قيمة الجائزة، التي أعلن فوزه بها في التاسع والعشرين من يونيو الماضي.
بهذه الفقرة يفتتح الناقد "بي ويلسن" Bee Wilson عرض كتاب "عملاق الماء أو الحوت" Leviathan, or The Whale للكاتب فيليب هور Philip Hoare في جريدة التايمز البريطانية، وهو الحاصل على جائزة صامويل جونسون للكتابات غير الأدبية، الجائزة الأهم في بريطانيا في هذا المجال.
يقول بي ويلسن في عرضه للكتاب إنه منذ وقت يونس (عليه السلام) وبقائه ببطن الحوت ثلاثة أيام، مثّل الحوت للإنسان "أسطورة تدفع الخيال".. ويسجل فيليب هور ولعه بالحوت منذ أن رآه كمجسم في متحف لندن للتاريخ الطبيعي ورؤيته له عندما كبر.. هنا مثلا يحكي فيليب هور عن الحوت:
"رأيت رجالاً بكوا حين رأوا الحوت للمرة الأولى، لا شيء آخر يمثل الحياة بهذا الكبر، رؤية حوت ليس مثل رؤية عصفور على شجرة في مدينة، أو قطة تعبر الطريق. ولا حتى كرؤية زراف يتلكأ في مرج إفريقي، الحيتان تفوق المعتاد، هم ليسوا حيوانات بقدر ما هم ينتمون للجغرافيا.. إن لم تتحرك الحيتان من الصعب أن تصدق بأنها كانت حية على الإطلاق".
يتداعى السرد ويحكي فيليب هور عن أشياء أخرى تتعلق به: طلق الولادة الذي شعرت به أمه عندما كانت في رحلة في غواصة بالبحر.. رعبه من السباحة حتى سن الخامسة والعشرين، وإعجابه آنذاك بعالم البحر وما به من كائنات.. "كأنما كنت أتحدى مخاوفي"، يضيف "هور" في حديث إذاعي له على موقع الجارديان.
يصف "هور" العلاقة التاريخية بين الإنسان والحوت: "في الماضي كنا نعتمد على الحيتان، والدتي ووالدتك كانتا تضعان مستحضرات تجميل من مركبات الحوت.. صيد الحيتان كحرفة ظل مسموحا به في أوروبا حتى عام 1986.. سريعا تحوّلنا من حضارة تصطاد الحيتان إلى أخرى تشاهد الحيتان.. هذا المفهوم، إن تاريخ البشر وتاريخ الطبيعة يتقابلان، هو ما يُقوي السرد في رأيي" يتحدث الكاتب في ذات الحوار بالجارديان.
الفقرة التالية مثلا تدلل على كلام "هور" أن تاريخ الطبيعة والبشر يتقابلان:
"الحيتان وُجدت قبل الإنسان، إلا أننا عرفنا عنها منذ جيلين أو ثلاثة. فحتى مع اختراع التصوير المائي، لم نعرف كيف كان شكلها.. فقط عندما رأينا الأرض من السفن الفضائية قمنا بتصوير أول حوت في بيئته الطبيعية.. الفيلم الأول عن "العنبر" (أحد أنواع الحيتان) على شواطئ سريلانكا، لم يتم تصويره حتى عام 1984. لقد عرفنا كيف بدا العالم قبل أن نعرف كيف بدت الحيتان. حتى الآن، هناك الحوت ذو المنقار، نعرفه فقط حين يجرف البحر عظامه على الشواطئ البعيدة.. تلك الحيوانات الخفية في قاع البحر، تحمل علامات غريبة، لم يرها العلماء مطلقا، حية كانت أم ميتة، ولم تدرس بالقدر الكافي حتى أنها تصنف "بيانات ناقصة".. من الأجدر بنا أن نتذكر أن حيوانات العالم أكبر منا، لم يحن الوقت بعد لنراها.. ليس كل شيء مصنف، وله لقب، وأرقام.. في المحيطات حيتان كبيرة تسبح لم يسمّها الإنسان بعد".
الفقرة السابقة تربط إذن بين تطور الأقمار الصناعية ومعرفة الإنسان للحوت عن قرب للمرة الأولى؛ الكتاب يحكي أيضا عن الأدب، تحديدا رواية "موبي ديك" Moby-Dick هنا نذكر شيئا عنها.
كتب رواية "موبي ديك" Moby-Dick الكاتب الأمريكي هيرمان ملفيل Herman Melville ، في القرن التاسع عشر تحديدا في عام 1851؛ وتحكي عن بحار يُدعى "إسماعيل" Ishmael تبتر ساقه وتحطم مركبه بواسطة حوت أبيض كبير يعرف باسم "موبي ديك"، ويسعى "إسماعيل" للثأر لنفسه من الحوت. وإذا كان في "موبي ديك" لا يخرج الحوت عن كونه حيوانا مفترسا؛ فإن فيليب هور يضفي صفات إنسانية على الحوت.. يقول مثلا إنه عندما رأي الحيتان في المحيط الأطلسي، شعر بأنهم "يحكمون عليّ. يعرفون من أنا. حتى لو لم أستطع فهمهم، أحسست أنني جسد على خريطة رباعية الأبعاد، يفحصونني بالحواس الستة".
في مواضع أخرى يصف "هور" الحوت بشاعرية؛ فهو "كالسحاب"؛ "عملاق حي محير كلغز"؛ و"بلاد بها مجتمعات كالكواكب".
هذه المبالغة في الوصف هي الانتقاد الذي وجهه الناقد "بي ولسن" للكاتب في نفس المقال بالتايمز:
"يقول فيليب هور: إن الحوت قُدّر له أن يشارك الإنسان نفس الهواء، ويخسر حياته في محاولة الإبقاء عليها، في موقف صعب كأي فيلسوف تحيره ظروف الإنسان" أتساءل هنا إن كان بإمكاننا أن نقول نفس الشيء على أي حيوان آخر، ليكن الفأر مثلا"!
ولع الكاتب بالموضوع الذي يتناوله، السرد الحالم، وقدرة الكاتب على إشراك القارئ معه هي أسباب اختيار "هور" للجائزة، وفقا لما ذكرته لجنة التحكيم على موقع الجائزة على الإنترنت.
لـ"فيليب هور" البالغ من العمر واحدا وخمسين عاما عدة كتب في مجال السيرة الذاتية مثل كتابه عن أوسكار وايلد Oscar Wilde’s Last Stand. خمس سنوات هي الزمن الذي استغرقه "هور" لكتابة "الحوت" وعشرون ألف جنيه استرليني هي قيمة الجائزة، التي أعلن فوزه بها في التاسع والعشرين من يونيو الماضي.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.